حزب الشعب الجمهوري التركي- أزمة فساد تهدد مستقبل المعارضة

لم أكد أباشر في تدوين هذه المقالة المتعلقة بالنفق المظلم الذي انزلق إليه حزب الشعب الجمهوري التركي، وهو حزب المعارضة الأبرز في البلاد، بسبب قضايا الفساد التي طالت شخصيات مرموقة فيه - وعلى رأسهم رئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام أوغلو - وعشرات آخرين، بالإضافة إلى الدعاوى القضائية التي رفعها بعض كبار أعضائه للمطالبة بإلغاء فعاليات الحزب الذي انعقد في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، بدعوى استعمال المال السياسي للتأثير في مجرياته.
وبينما كنت بصدد تنظيم أفكاري، فوجئت بأخبار عاجلة عن حملات اعتقال استهدفت رئيس بلدية إزمير السابق المنتمي لحزب الشعب الجمهوري، تونتش سوير، وأكثر من 150 شخصًا آخر، بتهم تتعلق بالفساد والاغتناء غير المشروع.
وكما بدأت الشرارة الأولى في قضايا الفساد المتهم فيها إمام أوغلو بتسريبات من داخل أروقة حزب الشعب، بدا الوضع في إزمير مشابهًا، حيث انطلقت القصة ببلاغ رسمي تقدم به رئيس البلدية الحالي المنتمي لنفس الحزب، جميل توغاي.
أتت هذه الحملة لتعمّق جراح الحزب وتثير تساؤلات جوهرية حول مستقبله، إذ حافظ الحزب حتى شهر مارس/ آذار الماضي على صدارة استطلاعات الرأي، مما منحه ثقة مفرطة بالنفس، حتى بدا وكأنه قد تسلم مقاليد الحكم في البلاد بالفعل!
كما أن مجمل الأحداث التي يمر بها حزب المعارضة الرئيسي يثير استفسارات حول مستقبل الحياة السياسية بأكملها، إذ تعتبر المعارضة الفعالة والقوية بمثابة ضمانة أساسية لقيام حياة ديمقراطية سليمة، كما سيتبين لاحقًا.
السياسات الخاطئة
على الرغم من أن رئيس حزب الشعب، أوزغور أوزيل، قد تعامل مع أزمة اعتقال إمام أوغلو وآخرين بمهارة فائقة في الأيام الأولى، وذلك وفقًا لتقييمات العديد من الصحفيين والمراقبين داخل تركيا، فإنه سرعان ما سقط في فخ الشعبوية، ولم يفعل ما كان يتوجب عليه فعله، كما جنح إلى تبني مواقف متطرفة أدت إلى تفاقم أزمة الحزب، ومن أبرز هذه الأخطاء:
أولًا: هيمنة الأيديولوجيا
يعود تاريخ حزب الشعب إلى تأسيس الجمهورية التركية ذاتها، إذ يعتبر مصطفى كمال أتاتورك المؤسس الأب للحزب، ورئيسًا له حتى وفاته.
وقد لعب الحزب أدوارًا سياسية مؤثرة (بغض النظر عن تقييم الأداء) منذ عام 1923 وحتى الآن، إذ ظل مهيمنًا على الساحة السياسية حتى عام 1946 عندما تم السماح بالتعددية الحزبية، والتي أدت إلى تولي الحزب الديمقراطي برئاسة عدنان مندريس، السلطة عام 1950، حيث استمر ممسكًا بزمامها لما يقارب عقدًا من الزمان.
لقد أخفق الحزب على مر العقود الطويلة التي تلت رحيل أتاتورك، باستثناء الفترة التي تلت الانقلاب العسكري عام 1960، حيث تذبذبت أحواله بين الغياب التام تقريبًا، أو الحكم التشاركي حتى وإن وصل الأمر إلى التحالف مع ألد الخصوم الأيديولوجيين لتشكيل الحكومة، كما حدث عام 1974 عندما شكل الحزب برئاسة بولنت أجاويد الحكومة رقم 37 بالتشارك مع حزب السلامة الوطني "المحافظ" بزعامة نجم الدين أربكان.
أحد الأسباب القوية وراء هذا الإخفاق، هو تبني الحزب أيديولوجية علمانية متطرفة ومتصلبة أبعدته كثيرًا عن الشرائح القومية والمحافظة في المجتمع التركي، نتيجة لسياسات الحزب التي كانت معادية لقيم وثقافة المجتمع، وأبرز مثال على ذلك موقفه الذي كان يرفض ارتداء الحجاب في الجامعات ومؤسسات الدولة الرسمية.
حاول رئيس الحزب السابق، كمال كليجدار أوغلو، في خضم الانتخابات الرئاسية الأخيرة، تجاوز هذه المعوقات، بإجراء مصالحة مع الشرائح المحافظة، بتبني سياسات أكثر تصالحية تجاه الدين، حتى إنه لم يتردد في الاعتراف بخطأ السياسات السابقة لحزبه، وقدم اعتذارًا بشأنها.
هذه السياسات التي انتهجها كليجدار أوغلو، نجحت في إحداث اختراقات في القاعدة التصويتية لحزب العدالة والتنمية، حتى وإن لم تكن مؤثرة بشكل كبير، لكنها كسرت جمود الحواجز الفاصلة بين شرائح المحافظين وبين الحزب.
لكن خلفه أوزغور أوزيل عجز عن تطوير هذه السياسات، التي كان من الممكن أن توسع نطاق الحزب التصويتي، حيث لوحظ عودة الاستقطاب الأيديولوجي إلى قاعدة الحزب.
ففي التجمع الذي دعا إليه الحزب في الأول من يوليو/ تموز الجاري أمام مبنى بلدية إسطنبول، حرص المتظاهرون على ترديد شعارات تؤكد على أن "تركيا علمانية.. وستظل علمانية".
فيما ظهر مقطع مصور لأحد المشاركين يهدد المحافظين قائلًا: "الذين يريدون تطبيق الشريعة تحت اسم الإسلام، سيتم إعدامكم واحدًا تلو الآخر، سيتم إعدامكم هنا"!
هذه اللغة العنيفة كانت بمثابة هدية مجانية للحكومة وأنصارها، الذين سارعوا إلى تذكير الرأي العام بمواقف الحزب السابقة تجاه المحافظين، محذرين في الوقت ذاته من عودته مرة أخرى إلى السلطة.
ثانيًا: تصدّع الحزب
لم يبذل رئيس الحزب، أوزغور أوزيل، ما يكفي لوقف تصدع الحزب من الداخل، في ظل انقسامه إلى جبهتين واضحتين، الأولى تضم أوزيل وإمام أوغلو وتظل هي الأقوى حتى الآن، والثانية يقف على رأسها رئيس الحزب السابق، كمال كليجدار أوغلو.
وذلك على خلفية الدعوى القضائية المرفوعة من بعض قيادات الحزب، والتي تطالب بإبطال نتائج مؤتمر الحزب الذي عقد أواخر عام 2023، وأهمها فوز أوزيل برئاسة الحزب، بدعوى استخدام المال في شراء أصوات المندوبين.
ورغم أن قرار المحكمة الأخير بتأجيل النظر في الدعوى إلى سبتمبر/ أيلول المقبل، أضفى حالة من الهدوء النسبي على المشهد، فإن الجميع يستعد للمرحلة الحاسمة، في ظل تمسك كل فريق بمواقفه.
فداخل الحزب، هناك حملة ممنهجة لتشويه سمعة كليجدار أوغلو واتهامه بالتواطؤ مع السلطة الحاكمة للعودة إلى رئاسة الحزب، حتى إن رئيس بلدية بولو، تانجو أوزجان، هاجمه بشراسة متهمًا إياه بمحاولة "استعادة المقعد الذي فقده في الانتخابات من خلال انقلاب قانوني".
هذه الحملة دفعت كليجدار أوغلو للتأكيد على التزامه بتنفيذ حكم المحكمة، والتأكيد على أن مقر الحزب الرئيسي يكون حيث يكون الرئيس موجودًا، وذلك ردًا على دعوات بمنعه من دخول الحزب!
حاول أوزيل التهرب إلى الأمام باتهام السلطة بمحاولة تفكيك حزبه من الداخل، مما دفع الرئيس، رجب طيب أردوغان، إلى الرد عليه عبر حسابه في منصة "إكس" قائلًا: "إن مناقشات المؤتمر التي يحاولون جرنا إليها بإصرار هي مشكلة داخلية في حزب الشعب الجمهوري، فجميع الأطراف في القضية المرفوعة أمام المحكمة هم أعضاء في الحزب".
ثالثًا: غياب القيادة المحكمة
من الخصائص التي تميز مسيرة الأحزاب في تركيا، أن غياب شخصية المؤسس غالبًا ما يؤدي إلى تفتت الحزب وانقسامه، ومن ثم زواله.
ولم يسلم حزب الشعب من هذا المصير، فعلى الرغم من بقائه لأكثر من قرن من الزمان، معتمدًا على قاعدة أيديولوجية راسخة، فإن تاريخه حافل بالصراعات الداخلية العنيفة، التي أدت إلى ابتعاد شخصيات سياسية ذات وزن عن الحزب، مثل رئيس الوزراء السابق، بولنت أجاويد، ورئيسه السابق، دينيز بايكال، ومؤخرًا المرشح الرئاسي السابق، محرم إنجه، قبل عودته الأخيرة التي ربما لن تطول!
والآن يبدو أن كليجدار أوغلو قد يواجه المصير ذاته، إلا إذا كان للمحكمة رأي آخر وأعادته مجددًا إلى رئاسة الحزب.
هذه الصراعات الداخلية تعود بشكل أساسي إلى غياب القيادة القادرة على السيطرة على زمام الأمور، والتي تستطيع أن تحكم التناقضات الداخلية، وتحدث حالة من التوازن بين الأجنحة المختلفة.
وقد رأينا ذلك بوضوح في حزب العدالة والتنمية، حيث لعبت شخصية أردوغان دورًا محوريًا في تماسك الحزب، وإبقاء الصراعات الداخلية في أضيق الحدود، حتى إن الحزب لم يتأثر بانشقاق شخصيات قيادية، مثل أحمد داود أوغلو، وعلي باباجان، أو تهميش آخرين مثل عبدالله غول، وبولنت آرينتش.
رابعًا: التماهي مع إمام أوغلو
أفرط أوزغور أوزيل في دعم أكرم إمام أوغلو، على الرغم من توفر الأدلة التي لا تزال تظهر تباعًا للرأي العام، بالإضافة إلى إدلاء أكثر من 30 موقوفًا حتى الآن باعترافات تفصيلية، والتي أدت إلى اعتقال العشرات الآخرين.
وعلى الرغم من ذلك، أصر أوزيل على ربط مصير الحزب بمصير إمام أوغلو، دون أن يحاول اتخاذ خطوات إلى الوراء، يحفظ بها سمعة الحزب وفرصه في أي انتخابات مقبلة، في حال إدانة إمام أوغلو في نهاية المطاف.
التداعيات
وجود معارضة قوية وفاعلة يعتبر بمثابة صمام أمان لسلامة الحياة الحزبية في أي دولة ذات نظام ديمقراطي حقيقي.
وهذا ما تجلى بوضوح عقب خسارة حزب العدالة والتنمية، انتخابات البلدية في مارس/ آذار 2024، إذ سلم أردوغان بالهزيمة، مؤكدًا وصول رسالة الناخبين التي أودعوها في صناديق الاقتراع، ومن ثم بدأ إعادة ترتيب الأوضاع الداخلية استعدادًا للانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقررة عام 2028.
كل هذا كان من الصعب حدوثه لو لم يخسر الحزب الانتخابات البلدية، أو تظهر المؤشرات ارتفاع أسهم حزب الشعب.
أيضًا، فإن تراجع حزب المعارضة سينعكس سلبًا على مجمل أوضاع اليسار التركي، الذي سيعاني بشدة، خاصة أن حزب الديمقراطية ومشاركة الشعوب (DEM) اليساري الكردي، قد تدفعه التطورات الداخلية المصاحبة لحل حزب العمال الكردستاني (PKK) وإلقاء سلاحه، إلى مسافة قريبة من السلطة، لا سيما في ملف إعداد الدستور الجديد.
مما يعني إفساح المجال لتحالف اليمين "القومي والمحافظ" المؤلف من حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية، لقيادة البلاد في المرحلة المقبلة.
وفي الختام، من الواضح أن حزب الشعب الجمهوري مقبل على أيام عصيبة، ما لم يسارع إلى إجراء مراجعات حقيقية وشاملة لسياساته وتوجهاته، ويعمل على ترميم الصدع الداخلي، قبل أن يستيقظ ذات يوم على واقع التشتت والانقسام.